السبت، 25 أبريل 2015

مفردات اللغة من أجل التعريب

التعريب هو جعل الشيء عربياً، و في الإصطلاح هو نقل العلوم إلى العربية، لغة وهوية وأسلوباً، وهو تخصيص من الترجمة، فالترجمة -وهي الإصطلاح المستخدم قديماً- مصطلح عام يعني تفسير فحوى الشيء وماهيته، كما قيل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه ترجمان القرآن. وكما يقال في ترجمة الشخص أي التعريف الشامل به اسمه ونسبه وسيرته، كما نقول عنها اليوم "السيرة الذاتية". فالتعريب هو ترجمة العلوم إلى العربية والترجمة هي تفسير معانيها ولو لم يكن تعريباً.

والعلوم الإنسانية من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، والعلم والحكمة محلها القلب والعقل "الإدراك" وديوانها الكتاب "دونوا العلم بالكتاب" ووسيلة نقلها من الكتاب إلى إدراك الإنسان هي اللغة التي آتاها الله الإنسان وعلمه إياها وبها يكون التوضيح والبيان، قال تعالى «خلق الإنسان، علمه البيان».

وكل أمة من الأمم لها لغة ولسان وأسلوب بيان، وبها تُكتَب علومهم وتُدرِك عقولهم، فالعجم لغات شتى، والعرب لهم لغتهم التي جعلها الله لغة وحيه وقرآنه، وما ذلك إلا لأنها فصيحة بليغة مبينة يبلغ بها مراد الدين. فحفظ الأوائل القرآن وعملوا بما فيه من الحكمة، ونهضوا بفضل الله في بضع سنين من الحضيض إلى المعالي وقادوا الأمم وتقدموا في شتى العلوم وبرعوا في الفنون والآداب والحساب، بلغة حوت ذلك كله وهي اللغة العربية.

وقد تنبه أسلافنا الأوائل في العصور القديمة كالعصر الأموي والعصر العباسي وما قبلهما إلى مقومات نهضة الأمة فوجدوا أن تحصيل العلم وتصنيفه، وتعريب القديم وتمحيصه، هو من مقومات النهضة والصعود، فعملوا كل ما في وسعهم لتعريب ما كتبه الأوائل، وتصنيف جديدِ ما لاحظوه وتأملوه وتعلموه، فوفقهم الله فيما سعوا له وعملوا من أجله.

فالعبرة لنا بما عملوه، والفخر لهم بما أنجزوه. أما ما نراه الآن من تفاخر المتأخرين -الذين لا يعملون- بمنجزات السابقين فهو فخر باطل وليس لهم شرفه ولا حق التفاخر به، لأنهم ما أنجزوه بأنفسهم، ولا أظهروا حرصاً على الحفاظ عليه. فـ "ليس الفتى من قال كان أبي، إن الفتى من قال ها أنا ذا".

ومن مظاهر تضييع سنة الأولين هو تضييع علومهم القديمة في مخطوطاتهم التي تكتظ بها مكتبات العالم، وتضييع اللغة التي بها كُتب ودُرِس هذا العلم بها، والإتجاه إلى التلقي بلغة الآخرين الذين لم أرى أمة أخرى غير العرب وهنت وخضعت للغة غير لغتها الأم.

لو نظرت إلى أوروبا اليوم، ستجد أن كل بلد وكل أمة فيها مستقلة عن الأخرى، لغة وفن وأدب ونظام، ولا ترضى أمة منهم أن تخنع لأخرى في شيء على حساب ما ينتمي لها. فالفرنسيون علومهم بلغتهم، والألمان كذلك، وكذلك الإسبان والبرتغال وبقية أمم أوروبا وتجد ذلك أيضا في بقية أمم الأرض كمن في آسيا الشرقية. ولنأخذ مثال في أوروبا ستجد بريطانيا موطن الإنجليزية بها أكثر من لغة وشعب، كل شعب عنده إستقلال وأنفَة من الخضوع للآخر، فهناك لغي مقاطعتي ولز واسكتلندا لغتان مختلفتان عن الإنجليزية والاخيرة منهما معترف بها كلغة إنسانية مستقلة.

الصين تقدمت ونهضت بلغتها، وكذلك اليابان والكوريتين والفلبين وروسيا ودول جنوب أمريكا وكندا، بل حتى فيتنام ودول فقيرة أخرى. جميع هذه الأمم تتعلم وتتكلم بلغاتها المختلفة وكلها أمم ناهضة ولغاتها مختلفة "الصينية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والفرنسية واليابانية والفلبينية والكورية والبرتغالية والفيتنامية والروسية!!

فما بال العرب والعربية!!
فلماذا لم يتبقى إلا العربية من لغات الأمم الكبيرة، لم يكتب بها لا علم ولا سياسة ولا طب ولا غيره، هل العيب والخلل فيها أم فيهم، ألا ترون أن العرب لا يقرأون ولا يترجمون ولا همّ لهم، بينما لغتهم العربية ذاتها لغة ناضجة نزل بها القرآن، وتكلم بها رسوله والصالحون من بعده، والعلماء المسلمين.

لا ننكر أن هناك جهود متواضعة للتعريب والترجمة كترجمة بعض الروايات والمقالات والكتب التي ليست علمية دراسية، ترجماتها كثير ركيك وقليل فصيح، مترجموها أفراد وليس دور نشر أو جامعات أو لغويون متخصصون. مواضيعها متفرقة، مراجعها لا زالت أعجمية، وليس هناك قواعد بيانات للمترجَمات وألفاظ المترجَمات ليكون هناك ترجمة موحدة للفظة الأعجمية ذات الدلالة الواحدة في سياق مشابه.

عراقيل
هناك عراقيل تواجه مشروع التعريب، وهي إنعدام قواعد البيانات الرقمية للمعاجم العربية والمعربات، وإنعدام تطوير برمجيات ترجمة عربية، وإنعدام تأسيس مؤسسات مختصة بذلك، وإنعدام الهمة عند العرب وهو أكبر سبب ومسبب لجميع ما سبق.

العلوم الإنسانية هي ثروة وحصيلة الفكر الإنساني من أقدم العصور، وهي من الحكمة التي هي بلا شك ضالة المؤمن كما في الأثر، واللغة تدخل في كل شيء وهي حلقة الوصل بين العقل والمعرفة. واللغة العربية خير اللغات وأفضلها. ولذلك فإن الحاجة إلى تطوير اللغة العربية وتجديد معاجمها، وجمع فوائتها، وإحياء مماتها، ورصد أساليبها هو أول الطريق إلى تعريب العلوم ونقلها إلى العربية.

وأثناء دراستي المتخصصة التي كانت باللغة الإنجليزية، وبحكم تأملي الدائم وفضولي المستمر في تعريب كل مفردة تمر بي في المجال الطبي أكانت فعلا أو عبارة أو مسمى، وحرصي على تعريب حتى الأعلام ككلمة بكتيريا التي فهمت لاحقاً صعوبة تعريبها وعدم الإضطرار إلى ذلك أصلاً؛ أقول -أثناء دراستي تلك- مرت بي مفرداتٌ وكأن ليس لها مقابل مستقل في العربية، وتعجبت حينها من عدم وجود أسماء بزعمي لبعض أجزاء الجسم المرئية سوى المفردة الإنجليزية كالبنكرياس مثلاً. 

وقد تبين لي لاحقاً أثناء إطلاعي على كتب السابقين كأدب الكاتب لابن قتيبة، وفقه اللغة للثعالبي، وغيرهها واطلاعي المستمر على معاجم اللغة جميعها أن اللغة العربية غنية جداً بالمفردات المتنوعة، وأنها قادرة على الإلمام بكل ما نريده، غير أنه قد يمر عليك مفردات ذات معنى منزوعة من سياقها الصحيح الذي استخدمه القدامى والسياق مهم جدا فهم المراد الدقيق لأي لفظة مرجوة.

قد نجد بعض ما نحتاجه في اللهجات:
وكذلك قد نجد كثيراً مما نحتاجه من مفردات -وكذلك أساليب- في اللهجات العربية المعاصرة كألفاظ مستقلة لشيء منفرد بذاته (ألفاظ عالية الدلالة بليغة التأثير واضحة المعنى) سقطت من المعاجم أو أنها موجودة بالمعاجم غير أنها لا يتضح موضع استخدامها الصحيح إلا من خلال النظر في طريقة استخدام الناس لها في حياتهم اليومية.

لذلك فإنه من الواجب جمع هذه المواد اللغوية في سياقها وبيان دلالتها والبحث فيها عما يفيد استخدامه لحياتنا المعاصرة بدلا من ترك هذه الألفاظ تندثر وتموت بلا عودة.

ومن المهم معرفة أن اللغة مقامات فهناك مقام رسمي حازم (يستخدم اللغة الفصيحة الرسمية)، ومقام فكاهي لما يناسبه ومقام أدبي يملؤه الخيال والمجاز، والعلوم البحتة تحتاج إستحداث وتطوير مقام لغوي مباشر دلالي واضح وسهل وغني بالمفردات وتذليل كل العقبات واستحداث الحلول لكل العقبات من أجل الوصول للغاية المرجوة.